الحكم مقابل الأمن!!

06 - يونيو - 2015 , السبت 07:01 مسائا
4250 مشاهدة | لا يوجد تعليقات
الرئيسيةفكر و ثقافة ⇐ الحكم مقابل الأمن!!

عاطف زاهر


ringShare

إن التاريخ في هذه المنطقة العربية لَيتكرر بشكل كارثي يبدو أشبه بلعنة هندوسية، تتناسخ فيها الروح-الدولة، بأشكال أكثر سوءًا، فلا تصل للكارما أبدًا، ولا تكف هي عن التناسخ، ولا يكف التاريخ عن التكرار، أو حتى تمر باختبارات جديدة، ولِمَ لا، وهي ترسب في كل مرة بالاختبار نفسه؟!

و المقارنة التاريخية الأكثر شيوعاً في هذا الصدد؛ هي دولة سلاطين المماليك الممتدة من أواسط القرن الثالث عشر إلى بدايات السادس عشر.

استقرت دولة المماليك على مبدأ حكم التغلب الذي يقضي بأن حاكم مصر يستمد شرعيته من القوة والتي إن لم يستطع توفيرها لحماية كرسيه، فإن الحاكم الشرعي هو من غلبه عليه. ولم يكن المماليك أنفسهم هم من أرسى ذلك المبدأ، وإنما كان قد استقر في الشريعة الإسلامية باتفاق كثير من الفقهاء الذين برروا حكم المتغلب بالشوكة والسيف، فأرسوا للنظم المغتصِبة أساسًا شرعيًا منذ الدولة الأموية.

و بدا أن ذلك لم يكن كافيًا لشرعنة سلطة مطمئنة للمماليك، فما كاد الظاهر بيبرس أن ينفض غبار عدة حروب انتصر فيها هو وسابقوه ضد الصليبيين والمغول الغزاة، حتى اضطر إلى تعزيز الشرعية التي غمز فيها فلول الأيوبيين في الشام، ولمز فيها بعض الفقهاء في مصر، إذ إن المماليك عبيد قد مسهم الرق، مهما استأمروا وقادوا الجيوش، والإمام لا بد أن يكون حرًا، فجلب بيبرس العائلة العباسية نفسها إلى القاهرة بعد انهيار الخلافة في بغداد على يد المغول، و نصب أحدهم خليفة وأسس لتنصيب السلطان بيد الخليفة ومباركته في طقس ديني يحضره القضاة والعلماء والأكابر. لم تخف على الناس بالطبع صورية هذا الطقس، إذ لم يحدث أبدًا أن كان للخليفة رأي في السلطان المتغلب، هذا الخليفة الذي كان يعزل أحيانًا، و يسجن أحيانًا أخرى، مدى حياته.

يقول المؤرخ “د. قاسم عبده قاسم” في مقال له: إن المصريين لم يكونوا ليهتموا كثيرًا بالجالس على العرش في القلعة؛ إذ كان دور الدولة هو إقامة العدل وحفظ الأمن وحماية الملكية وتنظيم الأسواق ورعاية المؤسسات والحماية من الخطر الخارجي، أما باقي الخدمات كالتعليم والصحة فتوفرها المبادرات الشعبية كالأوقاف.

نخلص من هذا كله؛ أنه في ظل الشرعيتين القانونية الضعيفة والدينية الظاهرية المتهافتة كانت الشرعية الحقيقة كامنة في مسوغ الحماية والأمن.

فقد قفز المماليك على العرش في لحظة عصيبة والصليبيون في دمياط وسوغت لهم بطولات معركة المنصورة الاستيلاء على العرش عن طريق القائدة الحقيقية أثناء المعارك: شجرة الدر، ثم من بعد ذلك كان المسوغ لانتزاع الشرعية، بل الأموال على يد قطز؛ هو صد المغول الذين كانوا على الأبواب بعد أن اكتسحوا بغداد، ثم بعد ذلك و طوال عهد دولة المماليك كانت الصورة المرعبة للجيوش المغولية البربرية المتوحشة بعساكر المغول والتتار يكتسحون البلاد ويقتلون الناس رجالاً وأطفالاً ويحرقون بلادهم و ينهبون أموالهم ويسبون نساءهم، صورة مرعبة و ماثلة في الأذهان تناقلها التجار والرحالة وضخمتها الحكايات الشعبية وكتبها المؤرخون في الشام ومصر ورعى استمرارها كل حكام المماليك.

magohl

لم يكن الخطر الخارجي فقط هو ما سوغ حكم المماليك، فقد جرد المماليك كثيرًا من الحملات لتأديب العربان الذين كانوا بالفعل يغيرون على القرى والقوافل والأسواق، فضلاً عن تأمين الطرق كطريق الحج، وقد استمر ذلك إبان حكم دولة المماليك الجراكسة البحرية القوية، ولكن في أواخر عهد المماليك الترك والمعروفة بالمماليك بالبرجية أصبح المماليك الجلبان أنفسهم عبئًا أمنيًا على الدولة؛ إذ تولوا بأنفسهم مهمة نهب الناس والإخلال بالأمن، فلم يجد الناس بُدًّا من الترحيب بالمتغلب التالي في صورة الدولة العثمانية، وإن كانت غازية؛ إذ فقدت الدولة المملوكية هنا وللأبد الأمن كأهم مسوغات وجودها وشرعيتها الرئيسة الكامنة.

في سبيل ذلك؛ الأمن الخارجي والداخلي، استأثر المماليك بالموارد والثروة المتمثلة في الأراضي الزراعية ومكوس مرور التجارة في مصر والشام -وهي ثروة هائلة-؛ فقد قُسمت أراضي مصر الزراعية إلى أربعة وعشرين قيراطًا استأثر السلطان منها بأربعة، وخصص عشرة للأجناد، ووُزعت العشرة الباقية على الأمراء (قاسم عبده- عصر سلاطين المماليك- عن المقريزي)، فتوزعت الموارد من محاصيل أراضٍ وأموال واحتكارات على الأمراء والعساكر وأصبحت الوظيفة المملوكية هي الأرقى في المجتمع، فإن العسكري المملوكي وحتى أكبر الأمراء والسلاطين يعيش حياته مخلصًا للعسكرية وللانتصار في الحروب في سبيل تلك الرفاهية التي تجعله في الطبقة المرموقة، وليس من طبقة الشعب الذي لا يحارب، ولكنه بالكأد يقتات على فتات بقايا الطبقة الحاكمة، إذ يُقسم عبده قاسم المصريين آنذاك إلى طبقتين فقط هما: المماليك الحكام والمصريين الرعايا المحكومين، لا يختلطان أبدًا، وهذا تقسيم اقتصادي واجتماعي وثقافي أيضًا، حتى في وجود طبقة من التكنوقراط المصريين المرتبطين بالحكام وذوي الدخل المرتفع، إلا إنه لا يجد ذلك قابلاً للمقارنة أو المقاربة مع طبقة الحكام، واستمرت تلك الشرعية المسوغة طوال حكم الدولة العثمانية حتى حين جاء نابليون فقد جاء “لحماية المصريين”، و أقام محمد علي مشروعه الشخصي والعائلي (حسب خالد فهمي في كتابه المهم: كل رجال الباشا) حول نواة “الجيش الحامي”، إلى أن قدم الاحتلال البريطاني” لحماية” الشرعية وصولاً إلى إعلان “الحماية” البريطانية.

في مقال للباحث الجزائري سيد أحمد فوجيلي في مجلة شؤون الأوسط (مركز الدراسات العربية) بعنوان “الأمن كابتزاز: جذور الدولة الحامية في العالم العربي” يبين كيف يمكن أن توفر الدولة الأمن عن طريق الترويج لانعدام الأمن، ولماذا تكون صناعة التهديد وتوظيفه محليًا واستراتيجيًا مربحة للدول الاستبدادية، عن طريق طرح الدولة نفسها ليس كدولة منظمة، ولكن “كدولة حامية (Garrison State): استبدادية وعنيفة ومتمركزة ومسيطرة في حضور الأزمة والتهديد على كل سمات المجتمع”، و”يقوم بمهام العنف وضبط الأمن في تلك الدولة ما يطلق عليهم “اختصاصيو العنف” خاصة الشرطة والاستخبارات -المجموعة الأقوى في المجتمعات العربية-“.

“وقد تبدو تلك الدولة المركزية المحتكرة للعنف والمتمركزة حول الأمن دولة قوية، لكنها على العكس دولة هشة وضعيفة البنيان”؛ وذلك ما اتضح في الثورات العربية الأخيرة حتى بعد ارتدادها وخسارتها المرحلية -هكذا أظن- إلى القوى المضادة للثورات من التحالفات الحاكمة في النظم السابقة.

يفسر هذا التناقض بأن تقوم الدولة بتضخيم الأخطار الخارجية والداخلية وتسوّق الأمن كسلعة، ثم تقوم الدولة بابتزاز الحماية من الشعب بأكمله، ويحدث عندما تقوم الدولة بانتزاع عوائد الحماية من الشعب في صورة احتكارات وانتزاع الموارد والمنافع والتسهيلات والتوكيلات، بل والمعونات والوظائف العليا والتدريب وتوزع “بنظام الغنائم (Spoil System) على ما يطلق عليه التحالف الفائز (Winning Coalition)، ويتشكل هذا التحالف من النوادي والتجمعات السياسية المغلقة التي تتأسس في معظم الحالات على الروابط النفعية والوشائجية، وتكون مسنودة من قبل اختصاصيي العنف ومؤيديهم المدنيين الذين يدعمون التحالف والنظام القائم، وهؤلاء هم النخب المرتبطة بالتحالف الفائز من “البرجوازية البيروقراطية الأجيرة”، وهي الطبقة الوسطى الجديدة أو الطبقة المنسلخة عن الطبقات. (وتلك الأوصاف هي بالإحالة إلى حسن خلدون النقيب) من كبار الموظفين والإعلاميين وباقي النخب التكنوقراطية والثقافية.

فشلت الدول العربية في صد التهديدات الخارجية، وإقناع شعوبها أن تبرر تسلطها من أجل الحماية الخارجية إثر انهزامها في كل حروبها أو تسليمها بتسويات ومعاهدات تقليم الأظفار من أجل “الاستقرار”، حتى وصل الأمر للقضاء على نفسها بنفسها في الحالة العراقية، ومن العجب أن هناك مثلاً وحتى الآن من لا يزال يدافع عن وجود النظام السوري الإجرامي بالحجة نفسها التي تدعى ببلاهة أنه “حائط الصمود” الباقي في وجه إسرائيل!

وعندما عدمت الحكومات هذه الذريعة؛ فإنها لجأت للابتزاز عن طريق تضخيم العدو في الداخل من الجماعات الدينية أو السياسية أو الأقليات ويصبح الحفاظ على الأمن لا يعني إلا الحفاظ على النظام الحاكم، ويصبح الحاكم هو الوطن سوريا الأسد، ومصر مبارك، وهنا تصدق الإحالة إلى مقولة تشارلز تيلي: “شَن الحرب وصُنع الدولة هي الظواهر الأكثر تجسيدًا للجريمة المنظمة”.

لا ينطبق كل هذا على الأنظمة العسكرية فقط، ولكنه يتجلّى أكثر وبشكل أكثر وضوحًا فيها وخاصة بعد ارتداد الثورات العربية، فقد نزع العسكر بَدْلاتهم الحربية وتوزعوا على الوزارات والمحليات والهيئات وأصبحوا تكنوقراطيين أيضًا، وزاد ذلك من أهمية الجيش والسلطة وأصبحت العملية الاستخباراتية عصب الدولة وتوسعت دائرة اختصاصيي العنف لتشمل جميع الهيئات الضبطية والرقابية وتوسعت وتطورت أشكال المراقبة والتجسس والاختطاف والتصفية الجسدية حتى تمت عسكرة المجتمعات العربية.

يحيلنا المقال المذكورأيضًا إلى التاريخ القديم حين يذكر “المتلازمة الفارسية: حيث كان الفرس قديمًا إذا مات الملك يمنحون الشعب حرية مطلقة لخمسة أيام قبل تنصيب الملك الجديد، فإذا استشرى اللاأمن وسادت الفوضوى، أحست الرعية بضرورة وفضيلة السلطة. اختبر الفرس ما تؤكده نظريات علم السياسة اليوم: تستمد الدول قوتها من الأوضاع التي يكون فيها الأفراد في أمسّ الحاجة إليه”.

وفي التطبيق على ظروف قيام الثورات الشعبية في الدول العربية نجد أن الشرعية الأمنية قد سقطت منذ أن اكتشفت الشعوب تهافت نظرية الأمن القومي حين عجزت الأنظمة العربية فُرادى وجماعات عن حماية أمنها الخارجي ثم اقتتلت لصالح تجار السلاح، ثم سقطت ثانية حين طال الأمد بفزّاعات العدو الداخلي من الإسلاميين والأقليات، واضطرت تلك الأنظمة إلى عقد تحالفات مسرحية مع أعدائها الداخليين وصنائعها من الأحزاب الكرتونية، يأخذ فيها كلٌّ دوره؛ فتتوالى فترات الانتخابات التي يحصل فيها الأعداء (الإخوان بمصر كمثال) على مقاعد “معارضة مستأنسة” ثم تأتي فترات اعتقالات وصراخ و تبريرات النخبة الأجيرة لابتزاز الأمن والحماية وتسويغ الثمن المدفوع باستمرار النظام و شرعنة احتكار الغنائم.

سقطت تلك الشرعية إذًا، فاتضحت هشاشة النظم وضعف الدولة حين سقط قناعها الأمني وواجهتها الحديدية.

وحين قامت الثورات لإزاحة النظم العربية، سقطت بغرابة وسهولة مدهشة، وفي مصر -كمثال- لم تجد النخبة الأجيرة وعناصر التحالف الحاكم السابق وقواتهم من اختصاصيي العنف من وسائل مقاومة الثورة الشعبية لاستعادة السيطرة، سوى الشرعية نفسها، وهذا يدل بوضوح على الإفلاس الفكري لتلك النخب والأنظمة التي لم تجتهد حتى لتثبيت حكمها الهش القائم على التخويف بابتكار أدوات وخطاب بديل قد يعضد من حكمها الزائل ويحمي مكتسباتها المسروقة، إذ لجأت تلك العناصر من أول يوم في ثورة مصر إلى سحب الشرطة لإشاعة الفوضى التي هدد بها رأس النظام صراحة عشية اضطراره خلع نفسه طلبًا للأمان؛ إذًا هي تلك المتلازمة الفارسة بوضوح.

ولما شكلت المجموعات الشبابية -التي لم تتجرع كأس الشرعية الأمنية بعد- مجموعات الحماية الشعبية، ونجحت في السيطرة على الشارع دون حدوث الفوضى المتوقعة، ظهرت -فجأة- مجموعات إجرامية ممولة لبث الرعب في نفوس كل طبقات المصريين وخاصة حين مس الأمر خطف الأطفال والكبار والترويع وسرقة الممتلكات وخاصة السيارات والإطلاق العشوائي للأسلحة النارية في مناطق المدن المختلفة، فضلاً عن تقاعس الشرطة عن التدخل في أي بلاغ بالتعدي أو السرقة، وكان على الكل حماية نفسه في ظل استحالة استمرار لجان الحماية الشعبية لآجال ممتدة، فأيقنت الطبقات الشعبية وخاصة المتوسطة ذات الملكية المكشوفة وغير القادرة على تمويل حماية ممتلكاتها المحدودة، أنه لا نجاة إلا بتثبيت نظام يحفظ الأمن ولو على حساب الحريات وانتشار الفساد المتمثل في توزيع الموارد على فئة قليلة.

حدث ذلك تحت حكم المجلس العسكري الذي لم يغادر السلطة أبدًا وبتغاضي الشرطة التي مثلت دور المظلومية بعد الضربة الموجعة التي وجهها لها الثوار وانهيارها الدرامي في سويعات الثورة الأولىن مع عجزها المزري في هدفها الأوحد الموكل إليها وهو حماية النظام، والغريب أن يرى الناس ذلك ثم لا يتورع عدد غير قليل بالارتماء في أحضان سارقيهم في ما بعد، مما يدل على أزمة الوعي عند غير أجيال الشباب التي ما فتئت تعبر عن تذمرها على صفحات التواصل الاجتماعي، فهذه أجيال رأت الصورة الحقيقية للدولة الهشة المستأسدة خلف أسلحة العنف التي سقطت عند أول مواجهة جادة.

كانت الحجة الابتزازية بعد الثورة هي مواجهة الفوضى ثم حتى بعد وصول الإخوان للسلطة، فإنهم -كمصابين مثاليين بمتلازمة ستوكهولم- تبنوا الخطاب الأمني نفسه البائس لأعدائهم من النظام السابق، وكان العدو المخترع هذه المرة هو العلمانيون و”أعداء الإسلام”، بالإضافة للأقليات الدينية من مسيحيين وشيعة، ونخبتهم البديلة كانت فقهاء الإعلام، ثم بعد استرداد العسكر لسلطة -لم تغادرهم أبدًا- بإزاحة الإخوان من على المسرح، كان الإخوان مرة أخرى (دون أي مجال للإبداع للنخبة المترهلة) هم الأعداء والخطر المحدق الذي برر استخدام كل أنواع العنف الدموي ضد الجميع.

حتى بعد استرداد العسكر الدرامي والدموي للحكم بشرعية التغلب بالشوكة والسيف، والتي استند إليها السلفيون في تأييد الحكم العسكري الجديد، مما يعيدنا للمقارنة المقترحة مع عصر المماليك)، فقد بدا أنهم يحتاجون لشرعية جديدة حتى بعد التفويض الشعبي والذي يشبه بيعة جماعية، والتي لم تقتصر على أهل الحل والعقد، فانتصبت على الفور شواهد الأعداء الخارجيين والداخليين كمبرر للممارسات المفرطة في العنف للسلطة الموتورة.

وإحقاقًا للحق الضائع في تلك الفوضى العارمة، نجحت النخب الأجيرة في اختراع أعداء خارجيين جدد، فحماس على الحدود عدو لا بد من شحذ الهمة للقضاء عليه، وليس العدو إسرائيل، فنحن نعرف أنه لا قبل للنظام بمعاداة إسرائيل، العدو الحقيقي، حماس إذًا ولكن بالإضافة وبالاشتراك مع تركيا وقطر (التي نصالحها أحيانًا ونخاصمها أخرى) ثم أمريكا المتآمرة التي هزمناها في مواقع كثيرة وأسرنا قائد أسطولها ونحن على المستوى الرسمي نؤكد على الصداقة الاستراتيجية ونطلب السلاح، معارك إعلامية تشنها النخب الأجيرة لا تترجمها العلاقات والتحركات الدبلوماسية الرسمية؛ مما يؤكد أن هؤلاء أعداء مخترعون خصيصًا للاستهلاك المحلي لزوم الابتزاز الأمني، استبدال فاشية صرعية زاعقة بائسة بالابتزاز الهادئ الرزين الذي يستحلب الموارد ويوزعها في الهدوء الذي تميزت به النظم السابقة.

وأضاف اختصاصيو العنف في مصر إلى لائحة “أعداء الوطن” على حد تعبير فيلم “البريء” للراحلين أحمد زكي وعاطف الطيب، شباب الثورة، بحجة أنهم خونة وأنهم يسعون إلى الفوضى وإعاقة تقدم مصر، دون تقديم أية دلائل على أي تقدم أو على تهم كثيرة معظمها ينتمي للكوميديا السوداء أكثر من كتب القانون وساحات المحاكم تكيلها النيابة ويحكم على أساسها قضاء أثار الكثير من الأسئلة عند طبقات لم تكن تشك في نزاهته خلال النظم السابقة حين يبرئ كل لصوص ومجرمي العهد البائد ويتشدد في سجن شباب الثورة فضلاً عن أحكام الإعدام بالجملة.

بدا هذا ضروريًا؛ إذ لم تكتفِ السلطة بالتمثيل بالإخوان وبتجربة إهدار الحقوق والحريات والقتل الجماعي الشنيع للجماعة التي نجح النظام في ترسيخ الاعتقاد بمدى ضررها، و ضرورة تجييش الموارد لحربها، بل إبادتها، وسط مباركة شعبية فاشية قادتها النخبة الأجيرة، بل كان ولا بد لتلك السلطة الأمنية الموتورة والعائدة على رجاء تثبيت حكمها الذي انكشفت هشاشته، من التمثيل برموز التمرد على النظام بالتمثيل الجسدي بحسب ميشيل فوكو-بشباب الثورة المعارض- حتى ولو كان ذلك بسبب كتابات على تويتر، أو بتهم تعود لمعارضتم لحكم الإخوان؛ ذلك، كي يكونوا عبرة لكل المعارضين، ويرتدع من كان في نفسه مرض من ثورة.

معظم المفكرين العقلاء والتنويريين (أنصار الحفاظ على الدولة -ككيان هلامي بلا تعريف- بأي ثمن) والمريشالياتيين (أنصار صلاحية الحاكم العسكري دون غيره)، وكلها مصطلحات تذكر على سبيل السخرية من الفكر الانهزامي الذي يكرس الاستسلام والالتفاف حول عودة قوى النظام السابق بأشرس مما كانت عليه في البطش والسرقة والاستبداد، دعاهم كل ذلك لكتابة مقالات تدعو إما للتعايش وإما للإصلاح من الداخل أو تفسير ما يحدث بصراع على السلطة من أعضاء التحالف السابق نفسه.

إن دلائل الصراع على السلطة جلية من تسريبات التصنت على أعلى القيادات العسكرية المخابراتية (للمفارقة الدالة) وبتقنيات متقدمة، فضلاً عن المحتوى الدال على تهافت وعجز النظام ومن تحركات أخرى داخل النظام توحي بأن إعادة توزيع الكعكة المصرية لم يتم الاتفاق عليها والاستقرار بشأنها بعد، و أيضًا رغم الإعلان عن إجراءات قد تؤدي إلى تهدئة الرأي العام المتذمر من الصعوبات المعيشية وانهيار المرافق والغلاء، ووفوق كل ذلك، الفشل الأمني وهو الأمر ذاته الذي تبني عليه النظام شرعيته.

ذلك بالإضافة إلى التنازلات التي قدمتها الدولة لحلفائها من رجال الأعمال الممولين الرئيسين لأجندتها، والتي تعد غير مسبوقة، إذ إن تلك التنازلات قد فاقمت من مستويات انحياز التوزيع النخبوي الاختياري للثروة لصالح الأغنياء على حساب الفقراء إلى مستوى تاريخي فاق مستويات ما قبل الثورة الذي ثار عليها الناس في لحظة غير مواتية للنظام العائد.

إن البؤس الذي يبعثه احتمال أن كل نظام سوف يأتي سوف يكرر المقولات التعسة نفسها ليبعث على كآبة بروميثية لا حد لها، لا يخفف من حدتها وربما يقضي عليها مستبدلاً الأمل الواقعي بهذا اليأس الانهزامي، إلا الشباب الثائر الذي لم يستمرئ مقولات الأمن ولم يشتر السلعة؛ إذ كُشف عنه غطاؤه فبصره الحديد رأى الملك عاريًا وضعيفًا ولم يستسلم للابتزاز الأمني وأيقن أن الدولة الأمنية كيدها في تباب وأن الأمن الدولتي المعروف بالأمن القومي ماهو إلا أسطورة يقصد به فقط أمن النظام الذي هو إلى زوال، وقد عاين التجربة العملية حين أسقط بيده أسطورته ولو للمرة التي كان يحلم بها أمل دنقل حين نُقب الجدار، ذلك الذي قضى الناس العمر في نقبه، فلا عودة إذًا لدولة المماليك، بعد أن مر النور لتلك الأجيال؛ لا عودة.

*عام على رحيل رائد النشيد الإسلامي* *رضوان خليل (أبو مازن)* الضالع نيوز - خاص - فؤاد مسعد النور ملء عيوني والحور ملك يميني وكالملاك أغني في جنةٍ وعيونِ في القاهرة قضى رائد النشيد الإسلامي سنواته الأخيرة حتى وفاته في الـ15 مارس 2023، عن عمر ناهز 70 عاماً، تاركاً أثراً خالداً من تتمة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟

الإسم:

البريد الإلكتروني :

العنوان :

نص التعليق :
*

مساحة إعلانية

فيس بوك

تويتر

إختيارات القراء

إختيارات القراء

لا توجد مشاهدة

لا توجد تعليقات