مأساوية حلب... حين كُسر «العظم»

15 - ديسمبر - 2016 , الخميس 09:53 صباحا
4907 مشاهدة | لا يوجد تعليقات
الرئيسيةفهد سليمان الشقيران ⇐ مأساوية حلب... حين كُسر «العظم»

بالتزامن مع أنهار من دمٍ تنزف في حلب؛ المدرعات من تحتهم، والبراميل والطائرات من فوقهم رحل المفكر السوري صادق جلال العظم. ساند الثورة السورية منذ البداية، وخاض معارك طاحنة مع أدونيس حول الصراع على مرجعية الثورة السورية بين «الجامعة» و«الجامع». رحل بعد زميليه جورج طرابيشي ومطاع صفدي، كلهم أدمتهم الثورة السورية وكتبوا حولها طامحين وراغبين، أو مدافعين ومحللين، وتاراتٍ أخرى باحثين ومتسائلين.

طوال سنوات الأزمة السورية المؤلمة تشكّل النقاش بين نخب البلاد على اتجاهين اثنين؛ خطّ المؤيد للثورة، والمدافع عن حق الناس بالحريّة، وضرورة إسقاط النظام حتى وإن كان البديل السياسي حكمًا إسلاميًا محضًا. يعتبر أهل هذا الرأي أن الثورة بحد ذاتها غاية وفضيلة من أجل نيل الحرية. كان العظم قريبًا من هذا الرأي في لقاءاته المتلفزة ومناظراته.
بينما الوجهة الأخرى تعتبر الثورة وسيلة لتحقيق غاية، ومن دون الترتيب للمآلات المضمونة لن يكون هناك تأييد لها، وشرط تأييد الثورة بالنسبة لهؤلاء الوصول إلى نظامٍ علماني، والنقاش حول وضع المرأة، وضمان عدم إقامة حكم ديني، والإعلان عن المساواة بين الطوائف والأديان بسوريا، ومن عرّابي هذا القول أدونيس، الذي نشبت بينه وبين العظم سجالات بلغت ذروتها حين اتهم العظم خصمه «باستيقاظ شيعيته»، تلك الذروة من التهم تبيّن المستوى الطائفي حتى بين شخصيتين علمانيتين وفلسفيتين، ومناوئتين منذ نصف قرن لتيارات العنف، ومجتمعات الطوائف.. سجال وضّح المستوى الطائفي بين النخب، فضلاً عن حضور التصفية على المذهب والقتل على الهويّة بمناطق في سوريا.


رتّب العظم أوراقه الأكاديمية والفلسفية منسجمًا مع النزعة الماركسية، وأخذ خياراته السياسية والدينية منطلقًا منها، محجّمًا من الدور الفردي على المستوى العربي، ومغلّبًا النزعة الجماعية، ضمن طموحه التاريخي بثورة شاملة تجتاح المعيارية التفسيرية للأفكار الدينية، متأثرًا بالتحوّلات الفلسفية الغربية من الماركسية المعدّلة، إلى الوجودية «الموضة» شارحًا بملفٍ واسع رمزها الدنماركي كريكغارد، وفي بحثه عن بيرغسون أراد إيجاد الروابط بين التصوّف بتجربتيه المسيحية والإسلامية، وبمقدمة كتابه المهم «دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة» تكتب تلميذته د. نجلاء حمادة مقدمةً له، وتشرح كيف أن «الجرأة في خوض المعارك الصعبة، ومواجهة عمالقة القهر والجهل، والعقلانية والالتزام، ما فتئت ترافق العظم وتواكبه في جميع أعماله، ومن الثوابت في فلسفة العظم كما في حياته، ماركسية تجد فيما يعيشه الإنسان لا ما يقول به أو يكتبه، المعبّر الصادق عن قناعاته ومعتقداته وهذه ثابتة ما فتئ العظم يجسّدها ويدفع أثمانها بطيبة خاطر».
منذ أواخر الستينات أخذ العظم على عاتقه التأسيس للثورة المنشودة؛ ألف كتابه الذي شكّل الحدَث والحديث معًا، وألف عام 1969 «نقد الفكر الديني» ليدخل في نقاشٍ مع مرجيعاتٍ دينية بلبنان. حرّك المفتي حسن خالد دعوى ضده، وخاض نقاشاتٍ مع محمد مهدي شمس الدين، وموسى الصدر، ودخل في حوارات ندّية مع كمال جنبلاط وكان حينها وزيرًا للداخلية وساهم في حمايته من السجن الطويل، ليكتب من بعد ذلك حول الاستشراق معكوسًا، وعن ذهنية التحريم، تمثّل المبدأ الماركسي أن تغيير التفكير الديني هو المدخل الرئيسي لأي نقد، وبقي حتى آخر حواراته التلفزيونية مدافعًا عن ضرورة ذلك التغيير. ينضم العظم إلى صفدي وطرابيشي، مودّعين سوريا بلا أفقٍ منظور. اختلفت توصيفات كل منهم طبقًا لتنوع أدواتهم الفكرية والفلسفية، بيد أن الثابت الرئيسي بينهم كان الأمل بسوريا جديدة، لكن ومع هذا الطحن الاستثنائي غير المسبوق، والوحشية الكارثية التي تجرب في حلب لا يظنّ المتابع أن ثمة ولادة أخرى لمستقبل أنصع، بل إن براكين طائفية ووحشية أخرى ستتفجّر على أثر ذلك الصراع. تمنّى العظم من صراع الطرفين أن ينتج مستقبل ثالث على الطريقة الديالكتيكية المحرّكة لشريط التاريخ.


رحلة العظم الممتدة لإنتاج استمر نصف قرن كانت محاولة جريئة عايشت عهود الاستقلال، وانكسارات العرب مع إسرائيل، وانكسار التنوير أمام مد التطرف ونشوء الجماعات المسلّحة، وكانت حلب آخر معارك العظم، مأساوية تذكّر برثاء الماغوط ابن السلمية السورية حين رثى السياب:
«تشبثْ بموتك أيها المغفل


دافعْ عنه بالحجارةِ والأسنان والمخالب‏
فما الذي تريد أن تراه؟‏».
*نقلاً عن "الشرق الأوسط"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟

الإسم:

البريد الإلكتروني :

العنوان :

نص التعليق :
*

مساحة إعلانية

فيس بوك

تويتر

إختيارات القراء

إختيارات القراء